فصل: باب سجود السهو

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


كتـــــاب الفقــه

الجزء الثالث

من سجود السهو إلى صلاة أهل الأعذار

/بسم الله الرحمن الرحيم

 باب سجود السهو

قال الشيخ ـ رحمه اللّه‏:‏

الحمد للّه، نستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له‏.‏ وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا‏.‏

 فصل

في سجود السهو

والمهم منه أمور‏:‏ منها مسائل الشك، ومنها محله، هل هو قبل السلام أو بعده، ومنها وجوبه‏.‏

فنقول ـ ولا حول ولا قوة إلا باللّه ـ‏:‏ أما الشك ففيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة، وهي كلها متفقة ـ وللّه الحمد ـ وإنما تنازع الناس لكون بعضهم لم يفهم مراده‏.‏ ففي الصحيحين عن أبي / هريرة‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن أحدكم إذا قام يصلي، جاءه الشيطان فَلبَّس عليه، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك، فليسجد سجدتين، وهو جالس‏)‏‏.‏

وفي الصحيحين ـ أيضًا ـ عنه ؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له ضراط حتى لا يسمع الأذان، فإذا قضي الأذان أقبل‏.‏ فإذا ثوب بها، أدبر‏.‏ فإذا قضي التثويب، أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول‏:‏ اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى‏.‏ فإذا لم يدر أحدكم كم صلى، فليسجد سجدتين وهو جالس‏)‏‏.‏ وفي لفظ للبخاري‏:‏ ‏(‏فإذا لم يدر أحدكم كما صلى ثلاثًا أو أربعًا، فليسجد سجدتين وهو جالس‏)‏‏.‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏يسجد سجدتي السهو‏)‏‏.‏ ففي الحديث الصحيح الأمر بسجدتي السهو إذا لم يدر كم صلى، وهو يقتضي وجوب السجود، كقول الجمهور، وفيه أنه سماهما سجدتي السهو، فدل على أنهما لا يشرعان إلا للسهو، كقول الجمهور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فليسجد سجدتين وهو جالس‏)‏، مطلق لم يعين فيه لا قبل السلام، ولا بعده، لكن أمر بهما قبل قيامه‏.‏ ففي صحيح مسلم وغيره عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثًا، أم أربعًا،/ فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يُسَلِّم، فإن كان صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإن كان صلى تمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان‏)‏‏.‏ ففي هذا الحديث أنه إذا شك فلم يدر فليطرح الشك، وفيه الأمر بسجدتين قبل السلام‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إذا شك‏)‏، هو موضع اختلاف فهم الناس‏.‏

منهم من فهم أن كل من لم يقطع فهو شاك، وإن كان أحد الجانبين راجحًا عنده، فجعلوا من غلب على ظنه ـ وإن وافقه المأمومون ـ شاكًا، وأمروه أن يطرح ما شك فيه، ويبني على ما استيقن، وقالوا‏:‏ الأصل عدم ما شك فيه، فرجحوا استصحاب الحال مطلقًا، وإن قامت الشواهد والدلائل بخلافه، ولم يعتبروا التحري بحال‏.‏

ومنهم من فسر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏فليتحر‏)‏، أنه البناء على اليقين‏.‏ ومنهم طائفة قالوا‏:‏ إن كان إمامًا، فالمراد به الشك المتساوي، وإن كان منفردًا، فالمراد به ما قاله أولئك‏.‏

وقالت طائفة ثالثة‏:‏ بل المراد بالشك ما استوي فيه الطرفان، أو تقاربا، وأما إذا ترجح أحدهما، فإنه يعمل بالراجح، وهو التحري‏.‏ وعن الإمام أحمد ثلاث روايات كالأقوال الثلاثة‏.‏

والأول‏:‏ هو قول مالك والشافعي، واختيار كثير من أصحاب أحمد‏.‏

/والثاني‏:‏ قول الخرقي وأبي محمد، وقال‏:‏ إنه المشهور عن أحمد‏.‏

والثالث‏:‏ قول كثير من السلف والخلف، ويروي عن على وابن مسعود وغيرهما، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه فيما إذا تكرر السهو‏.‏ قال أحمد في رواية الأثرم‏:‏ بين التحري واليقين فرق‏.‏ أما حديث عبد الرحمن بن عوف فيقول‏:‏ ‏(‏إذا لم يدر أثلاثًا صلى أو اثنتين، جعلهما اثنتين‏)‏‏.‏ قال‏:‏ فهذا عمل على اليقين فبني عليه، والذي يتحري يكون قد صلى ثلاثًا، فيدخل قلبه شك أنه إنما صلى اثنتين إلا أن أكثر ما في نفسي أنه قد صلى ثلاثًا، وقد دخل قلبه شيء، فهذا يتحري أصوب ذلك، ويسجد بعد السلام، قال‏:‏ فبينهما فرق‏.‏

قلت‏:‏ حديث عبد الرحمن بن عوف الذي ذكره أحمد هو نظير حديث أبي سعيد، وهو في السنن، وقد صححهما الترمذي، وغيره‏.‏ وعن عبد الرحمن بن عوف؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أزاد أم نقص، فإن كان شك في الواحدة والثنتين، فليجعلهما واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثًا، فليجعلهما اثنتين، فإن لم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا، فليجعلهما ثلاثا، حتى يكون الشك في الزيادة، ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم، ثم يسلم‏)‏‏.‏

/ومن أصح أحاديث الباب حديث ابن مسعود في التحري، فإنه أخرجاه في الصحيحين،وحديث أبي سعيد انفرد به مسلم، لكن حديث عبد الرحمن بن عوف شاهـد له، فهما نظير حديث ابن مسعود في الصحيحين عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ صلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، قال إبراهيم‏:‏ زاد أو نقص، فلما سلم قيل له‏:‏ يا رسول اللّه، أحدث في الصلاة شيء‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وما ذاك‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ صليت كذا وكذا، قال‏:‏ فثني رجليه، واستقبل القبلة، فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم أقبل علينا بوجهه فقال‏:‏ ‏(‏إنه لو حدث في الصلاة شيء، أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر أنسي كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا شك أحدكم في صلاته، فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين‏)‏‏.‏

وللبخاري في بعض طرقه‏:‏ قيل يا رسول اللّه، أقصرت الصلاة أم نسيت‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وما ذاك‏؟‏‏)‏ قالوا‏:‏ صليت كذا وكذا‏.‏ قال‏:‏ فسجد بهم سجدتين، ثم قال‏:‏ ‏(‏هاتان السجدتان لمن لا يدري زاد في صلاته أو نقص فيتحري الصواب فيتم عليه، ثم يسجد سجدتين‏)‏، وفي رواية له‏:‏‏(‏فليتم عليه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين‏)‏، وفي رواية لمسلم‏:‏‏(‏فلينظر أحري ذلك إلى الصواب‏)‏، وفي رواية له‏:‏ ‏(‏فليتحر الذي يري أنه صواب‏)‏، وفي رواية‏:‏ ‏(‏فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب‏)‏‏.‏

/وفي الصحيحين، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد اللّه قال‏:‏ صلينا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإما زاد أو نقص‏.‏ قال إبراهيم‏:‏ وأيم اللّه ما ذاك إلا من قِبَلي، فقلنا‏:‏ يا رسول اللّه، أحدث في الصلاة شيء‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، فقلنا له الذي صنع، فقال‏:‏ ‏(‏إذا زاد أو نقص، فليسجد سجدتين‏)‏، قال‏:‏ ثم سجد سجدتين‏.‏ وقد تأوله بعض أهل القول على أن التحري هو طرح المشكوك فيه، والبناء على اليقين، وهذا ضعيف لوجوه‏:‏

منها‏:‏ أن في سنن أبي داود والمسند وغيرهما‏:‏ ‏(‏إذا كنت في صلاة فشككت في ثلاث وأربع وأكثر من أربع تشهدت ثم سجدت، وأنت جالس‏)‏‏.‏

ومنها‏:‏ أن الألفاظ صريحة في أنه يتحري ما يري أنه الصواب، سواء كان هو الزائد أو الناقص، ولو كان مأمورًا مطلقًا بطرح المشكوك فيه لم يكن هناك تحري للصواب‏.‏

ومنها‏:‏ أن ابن مسعود هو راوي الحديث، وبذلك فسره، وعنه أخذ ذلك أهل الكوفة قرنًا بعد قرن، كإبراهيم وأتباعه، وعنه أخذ ذلك أبو حنيفة، وأصحابه‏.‏

ومنها‏:‏ أنه هنا أمر بالسجدتين بعد السلام‏.‏ وفي حديث أبي / سعيد أمر بالسجدتين قبل السلام

ومنها‏:‏ أنه قال هناك‏:‏ ‏(‏إن كان صلى خمسا، شفعتا له صلاته، وإن كان صلى إتمامًا لأربع، كانتا ترغيمًا للشيطان‏)‏‏.‏ فتبين أنه يبني على اليقين، وهو شاك هل زاد أو نقص، هل صلى أربعًا أو خمسًا، وبين مصلحة السجدتين على تقدير النقيضين‏.‏

وفي حديث ابن مسعود قال‏:‏ ‏(‏فيتحرى الصواب فيتم عليه، ثم يسجد سجدتين‏)‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏فيتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين‏)‏، فجعل ما فعله بعد التحري تمامًا لصلاته، وجعله هنا متمًا لصلاته، ليس شاكا فيها، لكن لفظ الشك يراد به تارة ما ليس بيقين، وإن كان هناك دلائل وشواهد عليه، حتى قد قيل في قوله‏:‏ ‏(‏نحن أحق بالشك من إبراهيم‏)‏، أنه جعل ما دون طمأنينة القلب التي طلبها إبراهيم شكا، وإن كان إبراهيم موقنا ليس عنده شك يقدح في يقينه، ولهذا لما قال له ربه‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَي وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏260‏]‏ ، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏75‏]‏ ‏.‏

فإذا كان قد سمي مثل هذا شكا في قوله‏:‏ ‏(‏نحن أحق بالشك من إبراهيم‏)‏، فكيف بمن لا يقين عنده‏؟‏ فمن عمل بأقوي الدليلين / فقد عمل بعلم لم يعمل بظن ولا شك، وإن كان لا يوقن أن ليس هناك دليل أقوي من الدليل الذي عمل به، واجتهاد العلماء من هذا الباب‏.‏ والحاكم إذا حكم بشهادة العدلين حكم بعلم، لا بظن وجهل‏.‏ وكذلك إذا حكم بإقرار المقر وهو شهادته على نفسه‏.‏ ومع هذا، فيجوز أن يكون الباطن بخلاف ما ظهر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار‏)‏‏.‏

وإذا كان لديك معلوم أن مثل هذا الشك لم يرده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏(‏إذا شك أحدكم‏)‏، بل أكثر الخلق لا يجزمون جزما يقينيا لا يحتمل الشك بعد لكل صلاة صلاها، ولكن يعتقدون عدد الصلاة اعتقادًا راجحا، وهذا ليس بشك، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا شك أحدكم‏)‏، إنما هو حال من ليس له اعتقاد راجح، وظن غالب، فهذا إذا تحرى وارتأى وتأمل فقد يظهر له رجحان أحد الأمرين، فلا يبقي شاكا، وهو المذكور في حديث ابن مسعود، فإنه كان شاكا قبل التحري، وبعد التحري ما بقي شاكا مثل سائر مواضع التحري، كما إذا شك في القبلة فتحري حتى ترجح عنده أحد الجهات؛ فإنه لم يبق شاكا‏.‏ وكذلك العالم المجتهد، والناسي إذا ذكر، وغير ذلك‏.‏

/وقوله في حديث أبي سعيد‏:‏ ‏(‏إذا شك أحدكم‏)‏، خطاب لمن استمر الشك في حقه، بألا يكون قـادرًا على التحـري إذ ليس عنده أمارة ودلالة ترجح أحـد الأمرين‏.‏ أو تحري، وارتـأي، فلم يترجـح عنـده شيء، ومـن قـال‏:‏ ليس هنا دلالـة تبين أحد الأمـرين غلط، فقـد يسـتدل على ذلك بموافقـة المأمـومين،إذا كـان إمـامًا، وقد يسـتدل بمخبر يخـبره، وإن لم يكـن معـه في الصـلاة، فيحصـل له بذلك اعتقاد راجـح‏.‏ وقـد يتذكر مـا قـرأ بـه في الصـلاة فيـذكر أنه قرأ بسـورتين في ركعتين، فيعلم أنه صلى ركعتين لا ركعـة، وقـد يذكر أنه تشهد التشهد الأول، فيعلم أنه صلى ثنتين لا واحدة، وأنه صلى ثلاثا لا اثنتين، وقد يذكر أنـه قرأ الفاتحـة وحـدها في ركعة ثم في ركعـة فيعلم أنه صلى أربعا لا ثلاثا‏.‏ وقد يذكر أنه صلى بعد التشهد الأول ركعتين، فيعلم أنه صلى أربعا لا ثلاثا، واثنتين لا واحدة‏.‏ وقد يذكر أنه تشهد التشهد الأول، والشك بعده في ركعة فيعلم أنه صلى ثلاثا لا اثنتين‏.‏

ومنها‏:‏ أنه قد يعرض له في بعض الركعات‏:‏ إما من دعاء وخشوع، وإما من سعال ونحوه، وإما من غير ذلك، ما يعرف به تلك الركعة، ويعلم أنه قد صلى قبلها واحدة أو اثنتين، أو ثلاثًا، فيزول الشك، وهذا باب لا ينضبط‏.‏ فإن الناس دائمًا يشكون في أمور‏:‏ هل كانت أم لم تكن‏؟‏ ثم يتذكرون، ويستدلون بأمور على أنها كانت، فيزول / الشك، فإذا تحري الذي هو أقرب للصواب، أزال الشك، ولا فرق في هذا بين أن يكون إماما أو منفردًا‏.‏

ثم إذا تحري الصواب، ورأي أنه صلى أربعًا، كان إذا صلى خامسة قد صلى في اعتقاده خمس ركعات، وهو لم يؤمر بذلك، بخلاف الشك المتساوي، فإنه لابد معه من الشك في الزيادة والنقص، والشك في الزيادة أولي‏.‏ فإن ما زاده مع الشك مثل ما زاده سهوًا، وذلك لا يبطل صلاته‏.‏وأما إذا شك في النقص، فهو شاك في فعل ما أمر به، فلم تبرأ ذمته منه‏.‏

وأيضًا، فالأقوال الممكنة في هذا الباب‏:‏ إما أن يقال‏:‏ يطرح الشك مطلقًا، ولا يتحري‏.‏ أو يحمل التحري على طرح الشك، فهذا مخالفة صريحة لحديث ابن مسعود، وإما أن يستعمل هذا في حق الإمام، وهذا في حق المنفرد، ومعلوم أن كلا الحديثين خطاب للمصلين لم يخاطب بأحدهما الأئمة، وبالآخر المنفردين، ولا في لفظ واحد من الحديثين ما يدل على ذلك، فجعل هذا هو مراد الرسول، من غير أن يكون في كلامه ما يدل عليه نسبة له إلى التدليس والتلبيس، وهو منزه عن ذلك‏.‏

وأيضًا، فإن حديث أبي سعيد ـ مع تساوي الشك ـ متناول للجميع / بالاتفاق، فإخراج الأئمة منه غير جائز، وحديث ابن مسعود متناول لما تناوله حديث أبي سعيد، فلم يبق إلا القسم الثالث‏:‏

وهو أن كلاهما خطاب للشاك، فذاك أُمِر له بالتحري ـ إذا أمكنه ـ فيزول الشك‏.‏ والثاني أمر له إذا لم يزل الشك ماذا يصنع‏.‏

وهذا كما يقال للحاكم‏:‏ احكم بالبينة، واحكم بالشهود، ونحو ذلك، فهذا مع الإمكان‏.‏ فإذا لم يمكن ذلك رجع إلى الاستصحاب، وهو البراءة‏.‏ كذلك المصلي الشاك‏:‏ يعمل بما يبين له الصواب، فإن تعذر ذلك، رجع إلى الاستصحاب‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

ولأن العمل بالتحري يقطع وسواس الشيطان، أو يقلله، بخلاف ما إذا لم يتحر، فلا يزال الشيطان يشككه فيما فعله، أنه لم يفعله‏.‏ وقد قالوا‏:‏ إنه لو شك بعد السلام هل ترك واجبًا، لم يلتفت إليه، وما ذاك إلا لأن الظاهر أنه سلم بعد إتمامها، فعلم أن الظاهر يقدم على الاستصحاب، وعلى هذا عامة أمور الشرع‏.‏

ومثل هذا يقال في عدد الطواف والسعي ورمي الجمار، وغير ذلك‏.‏ ومما يبين ذلك‏:‏ أن التمسك بمجرد استصحاب حال العدم أضعف الأدلة مطلقًا، وأدني دليل يرجح عليه، كاستصحاب براءة الذمة / في نفي الإيجاب والتحريم، فهذا باتفاق الناس أضعف الأدلة، ولا يجوز المصير إليه باتفاق الناس إلا بعد البحث التام‏:‏ هل أدلة الشرع ما تقتضي الإيجاب أو التحريم‏؟‏

ومن الناس من لا يجوز التمسك به في نفي الحكم، بل في دفع الخصم، ومنعه فيقول‏:‏ أنا لا أثبت الإيجاب ولا أنفيه، بل أطالب من يثبته بالدليل، أو أمنعه، أو أدفعه عن إثبات إيجاب بلا دليل، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب أبي حنيفة‏.‏

وأما أهل الظاهر فهو عمدتهم، لكن بعد البحث عن الأدلة الشرعية، ولا يجوز الإخبار بانتفاء الأشياء وعدم وجودها بمجرد هذا الاستصحاب من غير استدلال بما يقتضي عدمها، ومن فعل ذلك كان كاذبا، متكلما بلا علم؛ وذلك لكثرة ما يوجد في العالم والإنسان لا يعرفه، فعدم علمه ليس علمًا بالعدم، ولا مجرد كون الأصل عدم الحوادث يفيد العلم بانتفاء شيء منها إلا بدليل يدل على النفي، لكن الاستصحاب يرجح به عند التعارض، وما دل على الإثبات من أنواع الأدلة فهو راجح على مجرد استصحاب النفي، وهذا هو الصواب الذي أُمِر المصلي أن يتحراه، فإن ما دل على أنه صلى أربعًا من أنواع الأدلة راجح على استصحاب عدم الصلاة، وهذا حقيقة هذه المسألة‏.‏

/ فصل

وأما المسألة الثانية ـ وهي محل السجود ـ‏:‏هل هو قبل السلام أو بعده‏؟‏ ففي ذلك أقوال مشهورة‏.‏ قيل‏:‏ كله قبل السلام، وقيل‏:‏ كله بعده، وقيل‏:‏ بالفرق بين الزيادة والنقصان‏.‏ وعلى هذا ففي الشك نزاع‏.‏

وقيل‏:‏ بأن الأصل أن تسجد قبل السلام، لكن ما جاءت السنة بالسجود فيه بعد السلام سجد بعده؛ لأجل النص، والباقي على الأصل وهذا هو المشهور عن أحمد‏.‏

والأول قول الشافعي، والثاني قول أبي حنيفة، والثالث قول مالك وأحمد، واختلف عنه‏.‏ فروي عنه فيما إذا صلى خمسًا هل يسجد قبل السلام أو بعده على روايتين‏.‏ وقد حكي عنه رواية بأنه كله قبل السلام، لكن لم نجد بهذا لفظًا عنه، وحكي عنه أنه كله بعد السلام، وهذا غلط محض‏.‏

والقاضي وغيره يقولون‏:‏ لم يختلف كلام الإمام أحمد أن بعضه /قبل السلام، وبعضه بعده‏.‏ قال القاضي أبو يعلى‏:‏ لا يختلف قول أحمد في هذين الموضعين أن يسجد لهما بعد السلام، إذا سلم وقد بقي عليه ركعة أو أكثر، وإذا شك وتحري‏.‏ قال أحمد في رواية الأثرم‏:‏ أنا أقول‏:‏ كل سهو جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد فيه بعد السلام، فإنه يسجد فيه بعد السلام، وسائر السجود يسجد فيه قبل السلام هو أصح في المعني‏.‏ وذلك أنه من شأن الصلاة فيقضيه قبل أن يسلم، ثم قال‏:‏ فسجد النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة مواضع بعد السلام، وفي غيرها قبل السلام‏.‏ قلت‏:‏ اشرح المواضع الثلاثة التي بعد السلام‏.‏ قال‏:‏ سلم من ركعتين فسجد بعد السلام، هذا حديث ذي اليدين‏.‏ وسلم من ثلاث فسجد بعد السلام هذا حديث عمران بن حصين‏.‏ وحديث ابن مسعود في التحري سجد بعد السلام‏.‏

قال أبو محمد‏:‏ قال القاضي‏:‏ لا يختلف قول أحمد في هذين الموضعين أنه يسجد لهما بعد السلام، قال‏:‏ واختلف قوله في من سهى فصلى خمسًا‏:‏ هل يسجد قبل السلام أو بعده‏؟‏ على روايتين‏.‏ وما عدا هذه المواضع الثلاثة، يسجد لها قبل السلام، رواية واحدة‏.‏ وبهذا قال سليمان بن داود، وأبو خيثمة، وابن المنذر‏.‏ قال‏:‏ وحكي أبو الخطاب روايتين أخريين‏:‏

/إحداهما‏:‏ أن السجود كله قبل السلام، وهو مذهب الشافعي‏.‏

والثانية‏:‏ أن ما كان من نقص يسجد له قبل السلام، لحديث ابن بُحَيْنة، وما كان من زيادة سجد له بعد السلام، لحديث ذي اليدين، وحديث ابن مسعود حين صلى خمسًا، وهذا مذهب مالك، وأبي ثور‏.‏ وقال أبو حنيفة وأصحابه وطائفة‏:‏ كله بعد السلام‏.‏

قلت‏:‏ أحمد يقول في الشك إذا طرحه وبني على اليقين‏:‏ أنه يسجد له قبل السلام، كما ثبت في الحديث الصحيح‏.‏ فعلى قوله الموافق لمالك‏:‏ ما كان من نقص وشك فقبله، وما كان من زيادة فبعده‏.‏ وحكي عن مالك أنه يسجد بعد السلام، لأنه يحتمل للزيادة لا للنقص، والزيادة التي اختلف فيها كلام أحمد هي‏:‏ ما إذا صلى خمسًا، فقد ثبت في الصحيح أنه يسجد بعد السلام، لكن هناك كان قد نسي، وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال‏:‏ صلى بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خمسًا، فلما انفتل شوش القوم بينهم، فقال‏:‏ ‏(‏ما شأنكم‏؟‏‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، زيد في الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏، قالوا‏:‏ فإنك قد صليت خمسًا، فانفتل ثم سجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال‏:‏ ‏(‏إنما أنا بشر أنسي كما تنسون‏)‏، وفي رواية أنه قال‏:‏ ‏(‏إنما أنا بشر مثلكم، أذكر كما تذكرون، وأنسي كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد / سجدتين وهو جالس‏)‏، ثم تحول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فسجد سجدتين‏.‏

وللبخاري عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسًا، فسجد سجدتين بعد ما سلم وفي الصحيحين عن ابن مسعود‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجدتي السهو بعد السلام والكلام‏.‏

فهذا الموضع اختلف فيه كلام أحمد‏:‏ هل يسجد بعد السلام كما سجد النبي صلى الله عليه وسلم أم يسجد قبله إذا ذكر قبل السلام‏؟‏ والنبي صلى الله عليه وسلم إنما سجد بعد السلام لكونه لم يذكر حتى سلم وذكروه، على إحدى الروايتين عنده لا يكون السجود بعد السلام مختصًا بمورد النص، كما قاله الأكثرون كأبي حنيفة، ومالك، وغيرهما‏.‏ كما لا يكون السجود قبل السلام مختصًا بمورد النص‏.‏ كما قاله الأكثرون‏:‏ أبو حنيفة، ومالك، وغيرهما، بل الصواب أن السجود بعضه قبل السلام، وبعضه بعده، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة‏.‏

ومن قال‏:‏ كله قبل السلام، واحتج بحديث الزهري، كان آخر الأمرين السجود قبل السلام، فقد ادعي النسخ،وهو ضعيف، فإن السجود بعد السلام في حديث ذي اليدين، فمالك والشافعي والجمهور / يقولون‏:‏ إنه ليس بمنسوخ، وإنما يقول‏:‏ إنه منسوخ من يحتج بقول الزهري‏:‏ أن ذي اليدين مات قبل بدر، وإن هذه القصة كانت متقدمة‏.‏ فقول الزهري بنسخه مبني على هذا، وهو ضعيف، فإن أبا هريرة صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين، وإنما أسلم عام خيبر، فالذين يحتجون بقول الزهري هنا، قد ردوا قوله بالنسخ هناك، والذين يقـولون بنسخ حديث ذي اليدين، هم يأمرون بالسجود بعد السلام، فكل من الطائفتين ادعت نسخ الحديث فيما يخالف قولها بلا حجة، والحديث محكم في أن الصلاة لا تبطل، وفي أنه يسجد بعد السلام، ليس لواحد منهما عن النبي صلى الله عليه وسلم معارض ينسخه‏.‏

وأيضا، فالنسخ إنما يكون بما يناقض المنسوخ، والنبي صلى الله عليه وسلم سجد بعد السلام، ولم ينقل مسلم أنه نهي عن ذلك، فبطل النسخ‏.‏

وإذا قيل‏:‏ إنه سجد بعد ذلك قبل السلام، فإن كان في غير هذه الصورة، كما في حديث ابن بحينة، لما قام من الركعتين، وفي حديث الشك، فلا منافاة، لكن هذا الظان ظن أنه إذا سجد في صورة قبل السلام كان هذا نسخًا للسجود بعده في صورة أخري، وهذا غلط منه، ولم ينقل عنه في صورة واحدة أنه سجد تارة قبل / السلام، وتارة بعده، ولو نقل ذلك لدل على جواز الأمرين، فدعوى النسخ في هذا الباب باطل‏.‏

وكيف يجوز أن يبطل بأمره بالسجود بعد السلام في صورة، وفعله له مما لا يناقض ذلك، ومن قال‏:‏ السجود كله بعد السلام، واحتج بما في السنن من حديث ثوبان‏:‏ ‏(‏لكل سهو سجدتان بعد التسليم‏)‏، فهو ضعيف؛ لأنه من رواية ابن عياش عن أهل الحجاز‏.‏ وذلك ضعيف باتفاق أهل الحديث، وبحديث ابن جعفر‏:‏ ‏(‏من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما يسلم‏)‏، ففيه ابن أبي ليلي، قال الأثرم، لا يثبت واحد منهما، مع أن هذا قد يكون مثل حديث ابن مسعود‏:‏ ‏(‏وإذا شك فيتحرى‏)‏، ويكون هذا مختصرًا من ذاك‏.‏

ومثل هذا لا يعارض الحديث الصحيح؛ حديث أبي سعيد في الشك‏:‏ أنه أمر بسجدتين قبل السلام، وحديث ابن بحينة الذي في الصحيحين الذي هو أصل من أصول مسائل السهو، لما ترك التشهد الأول وسجد قبل السلام، فهذه الأحاديث الصحيحة تبين ضعف قول كل من عمم فجعله كله قبله، أو جعله كله بعده‏.‏

بقي التفصيل‏.‏ فيقال‏:‏ الشارع حكيم لا يفرق بين الشيئين بلا فرق فلا يجعل بعض السجود بعده، وبعضه قبله، إلا لفرق بينهما،/ وقول من يقول‏:‏ القياس يقتضي أنه كله قبله، لكن خولف القياس في مواضع للنص، فبقي فيما عداه على القياس، يحتاج في هذا إلى شيئين؛ إلى أن يبين الدليل المقتضي لكونه كله قبله، ثم إلى بيان أن صورة الاستثناء اختصت بمعني يوجب الفرق بينها، وبين غيرها‏.‏ وإلا، فإذا كان المعني الموجب للسجود قبل السلام شاملا للجميع، امتنع من الشارع أن يجعل بعض ذلك بعد السلام، وإن كان قد فرق لمعني فلابد أن يكون المعني مختصًا بصورة الاستثناء، فإذا لم يعرف الفرق بين ما استثني وبين ما استبقي كان تفريقًا بينهما بغير حجة‏.‏

وإذا قال‏:‏ علمت أن الموجب للسجود قبل السلام عام، لكن لما استثني النص ما استثناه علمت وجود المعني المعارض فيه‏.‏

فيقال له‏:‏ فما لم يرد فيه نص، جاز أن يكون فيه الموجب لما قبل السلام، وجاز أن يكون فيه الموجب لما بعد السلام، فإنك لا تعلم أن المعني الذي أوجب كون تلك الصور بعد السلام منتفيًا عن غيرها، ومع كون نوع من السجود بعد السلام يمتنع أن يكون الموجب التام له قبل السلام عامًا، فما بقي معك معني عام يعتمد عليه في الجزم، بأن المشكوك قبل السلام، ولا بأن المقتضي له بعد السلام مختص بمورد النص، فنفي التفريق قول بلا دليل يوجب الفرق، وهو قول بتخصيص العلة من غير بيان فوات شرط أو وجود مانع، وهو الاستحسان المحض / الذي لم يتبين فيه الفرق بين صورة الاستحسان وغيرها‏.‏

وحينئذ، فأظهر الأقوال‏:‏ الفرق بين الزيادة والنقص، وبين الشك مع التحري، والشك مع البناء على اليقين‏.‏ وهذا إحدى الروايات عن أحمد، وقول مالك قريب منه، وليس مثله‏.‏ فإن هذا مع ما فيه من استعمال النصوص كلها، فيه الفرق المعقول؛ وذلك أنه إذا كان في نقص، كترك التشهد الأول احتاجت الصلاة إلى جبر، وجابرها يكون قبل السلام لتتم به الصلاة، فإن السلام هو تحليل من الصلاة‏.‏

وإذا كان من زيادة ـ كركعة ـ لم يجمع في الصلاة بين زيادتين، بل يكون السجود بعد السلام؛ لأنه إرغام للشيطان، بمنزلة صلاة مستقلة جبر بها نقص صلاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل السجدتين كركعة‏.‏

وكذلك إذا شك وتحري، فإنه أتم صلاته، وإنما السجدتان لترغيم الشيطان، فيكون بعد السلام‏.‏ ومالك لا يقول بالتحري، ولا بالسجود بعد السلام فيه‏.‏ وكذلك إذا سلم وقد بقي عليه بعض صلاته ثم أكملها فقد أتمها، والسلام منها زيادة، والسجود في ذلك بعد السلام؛ لأنه إرغام للشيطان‏.‏

/وأما إذا شك ولم يتبين له الراجح، فهنا إما أن يكون صلى أربعًا أو خمسًا، فإن كان صلى خمسًا فالسجدتان يشفعان له صلاته، ليكون كأنه قد صلى ستًا لا خمسًا، وهذا إنما يكون قبل السلام‏.‏ ومالك هنا يقول‏:‏ يسجد بعد السلام‏.‏ فهذا القول الذي نصرناه هو الذي يستعمل فيه جميع الأحاديث، لا يترك منها حديث مع استعمال القياس الصحيح، فيما لم يرد فيه نص، وإلحاق ما ليس بمنصوص بما يشبهه من المنصوص‏.‏

ومما يوضح هذا، أنه إذا كان مع السلام سهو؛ سجد بعد السلام، فيقال‏:‏ إذا زاد غير السلام من جنس الصلاة كركعة ساهيًا، أو ركوع أو سجود ساهيًا، فهذه زيادة لو تعمدها بطلت صلاته كالسلام، فإلحاقها بالسلام أولي من إلحاقها بما إذا ترك التشهد الأول، أو شك وبني على اليقين‏.‏

وقول القائل‏:‏ إن السجود من شأن الصلاة، فيقضيه قبل السلام يقال له‏:‏ لو كان هذا صحيحًا لوجب أن يكون كله قبل السلام، فلما ثبت أن بعضه بعد السلام، علم أنه ليس جنسه من شأن الصلاة، الذي يقضيه قبل السلام‏.‏ وهذا معارض بقول من يقول‏:‏ السجود ليس من موجب تحريم الصلاة، فإن التحريم إنما أوجب الصلاة السليمة، وهذه الأمور دعاوي لا يقوم عليها دليل، بل يقال التحريم أوجب / السجود الذي يجبر به الصلاة‏.‏

ويقال‏:‏ من السجود ما يكون جبره للصلاة، إذا كان بعد السلام؛ لئلا يجتمع فيها زيادتان، ولأنه مع تمام الصلاة إرغام للشيطان، ومعارضة له بنقيض قصده‏.‏ فإنه قصد نقص صلاة العبد بما أدخل فيها من الزيادة، فأمر العبد أن يرغمه فيأتي بسجدتين زائدتين بعد السلام، ليكون زيادة في عبادة اللّه، والسجود للّه، والتقرب إلى اللّه الذي أراد الشيطان أن ينقصه على العبد، فأراد الشيطان أن ينقص من حسناته، فأمره اللّه أن يتم صلاته، وأن يرغم الشيطان، وعفا اللّه للإنسان عما زاده في الصلاة نسيانًا‏:‏ من سلام وركعة زائدة وغير ذلك، فلا يأثم بذلك، لكن قد يكون تقربه ناقصًا لنقصه فيما ينساه فأمره اللّه أن يكمل ذلك بسجدتين زائدتين على الصلاة‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 فصل

وأما وجوبه‏:‏ فقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المتقدم لمجرد الشك، فقال‏:‏ ‏(‏إذا قام أحدكم يصلى جاءه الشيطان فلبس عليه صلاته، حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو جالس‏)‏ وأمر به فيما إذا طرح الشك‏.‏/ فقال في حديث أبي سعيد‏:‏ ‏(‏فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإن كان صلى تماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان‏)‏‏.‏

وكذلك في حديث عبد الرحمن‏:‏ ‏(‏ثم ليسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم، ثم يسلم‏)‏، وأمر به في حديث ابن مسعود ـ حديث التحري ـ قال‏:‏ ‏(‏فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين‏)‏، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏هاتان السجدتان لمن لا يدري أزاد في صلاته أم نقص، فيتحري الصواب، فيتم عليه، ثم يسجد سجدتين‏)‏، وفي الحديث الآخر المتفق عليه لابن مسعود‏:‏ فقلنا‏:‏ يا رسول اللّه، أحدث في الصلاة شيء‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ فقلنا له الذي صنع، فقال‏:‏ ‏(‏إذا زاد أو نقص فليسجد سجدتين‏)‏، قال‏:‏ ثم سجد سجدتين فقد أمر بالسجدتين إذا زاد أو إذا نقص‏.‏ ومراده إذا زاد ما نهي عنه، أو نقص ما أمر به‏.‏

ففي هذا إيجاب السجود لكل ما يترك مما أمر به، إذا تركه ساهيًا، ولم يكن تركه ساهيًا موجبًا لإعادته بنفسه، وإذا زاد ما نهي عنه ساهيًا، فعلى هذا كل مأمور به في الصلاة إذا تركه ساهيًا فإما أن يعيده إذا ذكره، وإما أن يسجد للسهو لابد من أحدهما‏.‏

/فالصلاة نفسها إذا نسيها صلاها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك‏.‏ وكذلك إذا نسي طهارتها، كما أمر الذي ترك موضع لمعة من قدمه لم يصبها الماء أن يعيد الوضوء والصلاة‏.‏ وكـذلك إذا نـسي ركعة‏.‏ كما في حديث ذي اليدين، فإنه لابد من فعل ما نسيه، إما مضموما إلى ما صلى، وإما أن يبتدئ الصلاة‏.‏ فهذه خمسة أحاديث صحيحة فيها كلها يأمر الساهي بسجدتي السهو‏.‏ وهو لما سهي عن التشهد الأول سجدهما بالمسلمين قبل السلام، ولما سلم في الصلاة من ركعتين أو من ثلاث صلى ما بقي، وسجدهما بالمسلمين بعد الصلاة، ولما أذكروه أنه صلى خمسًا سجدهما بعد السلام والكلام‏.‏

وهذا يقتضي مداومته عليهما وتوكيدهما، وأنه لم يدعهما في السهو المقتضي لها قط، وهذه دلائل بينة واضحة على وجوبهما، وهو قول جمهور العلماء، وهو مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة، وليس مع من لم يوجبهما حجة تقارب ذلك‏.‏

والشافعي إنما لم يوجبهما؛ لأنه ليس عنده في الصلاة واجب تصح الصلاة مع تركه، لا عمدًا ولا سهوًا، وجمهور العلماء الثلاثة وغيرهم يجعلون من واجبات الصلاة ما لا يبطل تركه الصلاة، لكن مالك وأحمد وغيرهما يقولون‏:‏ لا تبطل الصلاة بعمده، وعليه الإعادة، ويجب بتركه سهوًا سجود السهو‏.‏ وأبو حنيفة يقول‏:‏ إذا تركه عمدًا كان مسيئًا،/ وكانت صلاته ناقصة، ولا إعادة عليه، وأما ما يزيده عمدًا فكلهم يقول‏:‏ إن فيه ما تبطل الصلاة مع عمده دون سهوه، لكن هو في حال العمد مبطل فلا سجود، وفي حال السهو يقولون‏:‏ قد عفي عنه فلا يجب السجود‏.‏

وقد احتج بعضهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشك‏:‏ ‏(‏كانت الركعة والسجدتان نافلة‏)‏، وهذا لفظ ليس في الصحيح‏.‏ ولفظ الصحيح‏:‏ ‏(‏فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعتا له صلاته، وإن كان صلى تمامًا لأربع كانتا ترغيمًا للشيطان‏)‏، فقد أمر فيه بالسجود، وبين حكمته سواء كان صلى خمسًا، أو أربعا، فقال‏:‏ ‏(‏فإن كان صلى خمسا شفعتا له صلاته‏)‏ وهذا يقتضي أن التطوع بالوتر لا يجوز، بل قد أمر اللّه أن يوتر صلاة النهار بالمغرب، وصلاة الليل بالوتر‏.‏

وهنا لما كان مع الشك قد صلى خمسا، وهو لا يعلم جعل السجدتين قائمة مقام ركعة فشفعتا له صلاته‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن كان صلى تماما لأربع فلم يزد في الصلاة شيئا، كانتا ترغيما للشيطان‏)‏، فهذا اللفظ وهو قوله‏:‏ ‏(‏كانت الركعة والسجدتان نافلة له‏)‏ لا يمكن أن يستدل به، حتى يثبت أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم،/ فكيف ولفظه الذي في الصحيح يقتضي وجوبهما وجوب الركعة، والسجدتين‏.‏ والركعة قد اتفق العلماء على وجوبها، فحيث قيل‏:‏ إن الشاك يطرح الشك ويبني على ما استيقن‏:‏ كانت الركعة المشكوك فيها واجبة‏.‏

وإذا كانت واجبة بالنص والاتفاق،واللفظ المروي هو فيها وفي السجود، مع أن السجود أيضا مأمور به، كما أمر بالركعة‏.‏ علم أن ما ذكر لا ينافي وجوب السجدتين، كما لا ينافي وجوب الركعة،وإن كان هذا اللفظ قد قاله الرسول، فمعناه أنه مأمور بذلك مع الشك فعلى تقدير أن تكون صلاته تامة في نفس الأمر لم ينقص منها شيء يكون ذلك زيادة في عمله، وله فيه أجر كما في النافلة، وهذا فعل كل من احتاط فأدي ما يشك في وجوبه، إن كان واجبا، وإلا كانت نافلة له، فهو إنما جعلها نافلة في نفس الأمر على تقدير إتمام الأربع، ولكن هو لما شك حصل بنفس شكه نقص في صلاته، فأمر بهما، وإن كان صلى أربعًا ترغيما للشيطان‏.‏

وهذا كما يأمرون من يشك في غير الواجب بأن يفعل ما يتبين به براءة الذمة، والواجب في نفس الأمر واحد، والزيادة نافلة، وكذلك يؤمر من اشتبهت أخته من الرضاع بأجنبية باجتنابهما، والمحرم في نفس الأمر واحد، فذلك المشكوك فيه يسمي واجبا باعتبار أن عليه /أن يفعله،ويسمي نافلة على تقدير‏:‏أي هو مثاب عليه مأجور عليه ـ ليس هو عملا ضائعا ـ كالنوافل‏.‏ وأنه لم يك في نفس الأمر واجبا عليه، لكن وجب لأجل الشك، مع أن إحدى الروايتين عن أحمد أنه يجبر المعادة مع إمام الحي‏.‏

ويسمي نافلة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وكذلك قوله في حديث أبي ذر‏:‏ ‏(‏صل الصلاة لوقتها ثم اجعل صلاتك معهم نافلة، ولا تقل‏:‏ إني قد صليت‏)‏، فهي نافلة‏.‏ أي‏:‏ زائدة على الفرائض الخمس الأصلية، وإن كانت واجبة بسبب آخر، كالواجب بالنذر‏.‏

وكثير من السلف يريدون بلفظ النافلة‏:‏ ما كان زيادة في الحسنات، وذلك لمن لا ذنب له، ولهذا قالوا في قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏79‏]‏ ، أن النافلة مختصة برسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ لأن اللّه غفر له، وغيره له ذنوب فالصلوات تكون سببا لمغفرتها‏.‏ وهذا القول وإن كان فيه كلام‏.‏ ليس هذا موضعه‏.‏ فالمقصود أن لفظ النافلة توسع فيه، فقد يسمي به ما أمر به، وقد ينفي عن التطوع‏.‏

فقد تبين وجوب سجود السهو‏.‏ وسببه إما نقص، وإما زيادة‏.‏ كما قال في الصحيحين‏:‏ ‏(‏إذا زاد أو نقص فليسجد سجدتين‏)‏‏.‏ فالنقص كما في حديث ابن بُحَيْنة‏:‏ لما ترك التشهد الأول سجد، والزيادة / كما سجد لما صلى خمسا، وأمر به الشاك الذي لا يدري أزاد أم نقص فهذه أس

بابه في كلام النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إما الزيادة، وإما النقص، وإما الشك‏.‏ وقد تبين أنه في النقص والشك يسجد قبل السلام، وفي الزيادة بعده‏.‏

 فصل

وإذا كان واجبا، فتركه عمدًا أو سهوًا ـ ترك الذي قبل السلام أو بعده ـ ففيه أقوال متعددة في مذهب أحمد، وغيره‏.‏

قيل‏:‏ إن ترك ما قبل السلام عمدًا، بطلت صلاته، وإن تركه سهوًا، لم تبطل، كالتشهد الأول، وغيره من الواجبات، وما بعده لا يبطل بحال؛ لأنه جبران بعد السلام، فلا يبطلها، وهذا اختيار كثير من أصحاب أحمد‏.‏

وقيل‏:‏ إن ترك ما قبل السلام يبطل مطلقًا، فإن تركه سهوًا فذكر قريبًا سجد، وإن طال ال

فصل أعاد الصلاة، وهو منقول رواية عن أحمد، وهو قول مالك، وأبي ثور، وغيرهما، وهذا القول أصح من الذي قبله‏.‏ فإنه إذا كان واجبًا في الصلاة، فلم يأت به سهوًا، لم تبرأ ذمته منه، وإن كان لا يأثم كالصلاة نفسها، فإنه إذا نسيها صلاها / إذا ذكرها، فهكذا ما ينساه من واجباتها، لابد من فعله إذا ذكر؛ إما بأن يفعله مضافا إلى الصلاة، وإما بأن يبتدئ الصلاة‏.‏ فلا تبرأ الذمة من الصلاة ولا من أجزائها الواجبة إلا بفعلها‏.‏

والواجبات التي قيل إنها تسقط بالسهو ـ كالتشهد الأول ـ لم يقل إنها تسقط إلى غير بدل، بل سقطت إلى بدل وهو سجود السهو، بخلاف الأركان التي لا بدل لها‏:‏ كالركوع، والسجود، فإما أن يقال‏:‏ إنها واجبة في الصلاة، وإنها تسقط إلى غير بدل، فهذا ما علمنا أحدًا قاله، وإن قاله قائل، فهو ضعيف، مخالف للأصول، فهذان قولان في الواجب قبل السلام إذا تركه سهوًا‏.‏

وأما الواجب بعده، فالنزاع فيه قريب‏.‏ فمال كثير ممن قال إن ذلك واجب‏:‏ إلى أن ترك هذا لا يبطل؛ لأنه جبر للعبادة، خارج عنها، فلم تبطل كجبران الحج، ونقل عن أحمد ما يدل على بطلان الصلاة إذا ترك السجود المشروع بعد السلام، وقد نقل الأثرم عن أحمد الوقف في هذه المسألة، فنقل عنه فيمن نسي سجود السهو، فقال‏:‏ إذا كان في سهو خفيف فأرجو ألا يكون عليه‏.‏ قلت‏:‏ فإن كان فيما سها فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ هاه، ولم يجب‏.‏ قال‏:‏ فبلغني عنه أنه يستحب أن يعيده‏.‏ ومسائل الوقف يخرجها أصحابه على وجهين‏.‏

/وفي الجملة فقيل‏:‏ يعيد إذا تركه عامدًا، وقيل‏:‏ إذا تركه عامدًا أو ساهيًا‏.‏ والصحيح أنه لابد من هذا السجود، أو من إعادة الصلاة، فإنه قد تنوزع إلى متى يسجد‏.‏ فقيل‏:‏ يسجد ما دام في المسجد، ما لم يطل الفصل، وقيل‏:‏ يسجد ـ وإن طال الفصل ـ ما دام في المسجد، وقيل‏:‏ يسجد وإن خرج وتعدي‏.‏

والمقصود أنه لابد منه، أو من إعادة الصلاة؛ لأنه واجب أمر به النبي صلى الله عليه وسلم لتمام الصلاة، فلا تبرأ ذمة العبد إلا به‏.‏ وإذا أمر به بعد السلام من الصلاة، وقيل‏:‏ إن فعلته وإلا فعليك إعادة الصلاة، لم يكن ممتنعًا‏.‏ والمراد تكون الصلاة باطلة‏:‏ أنه لم تبرأ بها الذمة، ولا فرق في ذلك بين ما قبل السلام، وما بعده‏.‏ واللّه تعالى إنما أباح له التسليم منها بشرط أن يسجد سجدتي السهو‏.‏ فإذا لم يسجدهما، لم يكن قد أباح الخروج منها، فيكون قد سلم من الصلاة سلامًا لم يؤمر به، فيبطل صلاته‏.‏ كما تقول في فاسخ الحج إلى التمتع‏:‏ إنما أبيح له التحلل إذا قصد أن يتمتع فيحج من عامه، فأما إن قصد التحلل مطلقًا، لم يكن له ذلك، وكان باقيًا على إحرامه، ولم يصح تحلله، لكن الإحرام لا يخرج منه برفض المحرم، ولا بفعل شيء من محظوراته، ولا بإفساده، بل هو باق فيه، وإن كان فاسدًا بخلاف الصلاة، فإنها تبطل بفعل ما ينافيها، وما حرم فيها‏.‏

/وقياسهم الصلاة على الحج باطل، فإن الواجبات التي يجبرها دم لو تعمد تركها في الحج، لم تبطل بل يجبرها، والجبران في ذمته لا يسقط بحال، والصلاة إذا ترك واجبًا فيها بطلت‏.‏ وإذا قيل‏:‏ إنه مجبور بالسجود، فيقتضي أن السجود في ذمته كما يجب في ذمته جبران الحج‏.‏ أما سقوط الواجب وبدله، فهذا لا أصل له في الشرع‏.‏ فقياس الحج أن يقال‏:‏ هذا السجود بعد السلام يبقي في ذمته إلى أن يفعله، وهذا القول غير ممتنع، بخلاف قولهم يسقط إلى بدل‏.‏ لكن جبران الحج ـ وهو الدم ـ يفعل مفردًا بلا نزاع، وأما هذا السجود‏:‏ فهل يفعل مفردًا بعد طول الفصل‏؟‏ فيه نزاع‏.‏

ونحن قلنا‏:‏ لابد منه، أو من إعادة الصلاة، فإذا قيل‏:‏ إنه يفعل وإن طال الفصل كالصلاة المنسية، فهذا متوجه قوي، ودونه أن يقال‏:‏ وإن تركه عمدًا يفعله في وقت آخر، وإن أثم بالتأخير،كما لو أخر الصلاة المنسية بعد الذكر عمدًا فليصلها، ويستغفر اللّه من تأخيرها‏.‏ وكذلك المفوتة عمدًا عند من يقول بإمكان إعادتها يصليها ويستغفر اللّه من تأخيرها‏.‏ فهكذا السجدتان يصليهما حيث ذكرهما ويستغفر اللّه من التأخير، فهذا ـ أيضًا ـ قول متوجه، فإن التحديد بطول الفصل وبغيره، غير مضبوط بالشرع‏.‏

وكذلك الفرق بين المسجد وغيره ليس عليه دليل شرعي، وكذلك / الفرق بين ما قبل الحدث وبعده، بل عليه أن يسجدهما بحسب الإمكان‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 فصل

وما شرع قبل السلام أو بعده‏:‏ فهل ذلك على وجه الوجوب أو الاستحباب ‏؟‏ فيه قولان في مذهب أحمد، وغيره‏.‏

ذهب كثير من أتباع الأئمة الأربعة إلى أن النزاع إنما هو في الاستحباب، وأنه لو سجد للجميع قبل السلام، أو بعده، جاز‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن ما شرعه قبل السلام يجب فعله قبله، وما شرعه بعده لا يفعل إلا بعده، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره من الأئمة، وهو الصحيح‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طرح الشك قال‏:‏ ‏(‏وليسجد سجدتين قبل أن يسلم‏)‏، وفي الرواية الأخري‏:‏ ‏(‏قبل أن يسلم ثم يسلم‏)‏، وفي حديث التحري قال‏:‏ ‏(‏فليتحر الصواب فليبن عليه، ثم ليسجد سجدتين‏)‏، وفي رواية للبخاري‏:‏ ‏(‏فليتم عليه، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين‏)‏، فهذا أمر فيه بالسلام، ثم بالسجود‏.‏ وذاك أمر فيه بالسجود قبل السلام، وكلاهما أمر منه يقتضي الإيجاب‏.‏

/ولما ذكر ما يعم القسمين قال‏:‏ ‏(‏إذا زاد أو نقص فليسجد سجدتين‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏فإذا لم يدر أحدكم كم صلى فليسجد سجدتين وهو جالس‏)‏‏.‏ فلما ذكر النقص مطلقًا، والزيادة مطلقًا، والشك، أمر بسجدتين مطلقًا، ولم يقيدهما بما قبل السلام‏.‏ ولما أمر بالتحري أمر بالسجدتين بعد السلام‏.‏ فهذه أوامره صلى الله عليه وسلم في هذه الأبواب لا تعدل عنها‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَي اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏36‏]‏ ‏.‏ ولكن من سجد قبل السلام مطلقًا، أو بعد السلام مطلقًا متأولا، فلا شيء عليه‏.‏ وإن تبين له فيما بعد السنة، استأنف العمل فيما تبين له، ولا إعادة عليه‏.‏

وكذلك كل من ترك واجبًا لم يعلم وجوبه، فإذا علم وجوبه فعله، ولا تلزمه الإعادة فيما مضي‏:‏ في أصح القولين في مذهب أحمد، وغيره‏.‏

وكذلك من فعل محظورًا في الصلاة لم يعلم أنه محظور، ثم علم كمن كان يصلي في أعطان الإبل، أو لا يتوضأ الوضوء الواجب الذي لم يعلم وجوبه، كالوضوء من لحوم الإبل، وهذا بخلاف الناسي، فإن العالم بالوجوب إذا نسي صلى متى ذكر، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها‏)‏‏.‏ وأما من لم يعلم الوجوب، فإذا علمه، صلى صلاة الوقت وما بعدها، ولا إعادة عليه‏.‏ كما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي / المسيء في صلاته‏:‏ ‏(‏ارجع فصل فإنك لم تصل‏)‏‏.‏ قال‏:‏ والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلِّمني ما يجزيني في صلاتي، فعلمه صلى الله عليه وسلم وقد أمره بإعادة صلاة الوقت، ولم يأمره بإعادة ما مضي من الصلاة، مع قوله‏:‏ لا أحسن غير هذا‏.‏

وكذلك لم يأمر عمر وعمارًا بقضاء الصلاة، وعمر لما أجنب لم يصل، وعمار تمرغ كما تتمرغ الدابة، ولم يأمر أبا ذر بما تركه من الصلاة وهو جنب، ولم يأمر المستحاضة أن تقضي ما تركت، مع قولها إني أستحاض حيضة شديدة منعتني الصوم والصلاة ولم يأمر الذين أكلوا في رمضان حتى تبين لهم الحبال البيض من السود بالإعادة، والصلاة أول ما فرضت كانت ركعتين ركعتين،ثم لما هاجر زيد في صلاة الحضر ففرضت أربعًا، وكان بمكة وأرض الحبشة والبوادي كثير من المسلمين لم يعلموا بذلك إلا بعد مدة، وكانوا يصلون ركعتين، فلم يأمرهم بإعادة ما صلوا‏.‏

كما لم يأمر الذين كانوا يصلون إلى القبلة المنسوخة بالإعادة مدة صلاتهم إليها قبل أن يبلغهم الناسخ، فعلم أنه لا فرق بين الخطاب المبتدأ، والخطاب الناسخ‏.‏ والركعتان الزائدتان إيجابهما مبتدأ، وإيجاب الكعبة ناسخ‏.‏ وكذلك التشهد وغيره إنما وجب في أثناء الأمر، وكثير / من المسلمين لم يبلغهم الوجوب إلا بعد مدة‏.‏

ومن المنسوخ أن جماعة من أكابر الصحابة كانوا لا يغتسلون من الإقحاط،بل يرون الماء من الماء، حتى ثبت عندهم النسخ‏.‏ومنهم من لم يثبت عنده النسخ، وكانوا يصلون بدون الطهارة الواجبة شرعا لعدم علمهم بوجوبها، ويصلي أحدهم وهو جنب‏.‏

 فصل

إذا نسي السجود حتى فعل ما ينافي الصلاة من كلام وغيره، فقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه سجد بعد السلام والكلام، فقد بين ذلك في الصحيحين أنه صلى بهم الظهر خمسًا، فلما انفتل توشوش القوم فيما بينهم، فقال‏:‏ ‏(‏ما شأنكم‏؟‏‏)‏، قالوا‏:‏ يا رسول اللّه، زيد في الصلاة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فإنك صليت خمسًا، فانفتل ثم سجد سجدتين، ثم سلم‏.‏ وهذا قول جمهور العلماء وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وغيره‏.‏

وعن أبي حنيفة أنه إن تكلم بعد السلام، سقط عنه سجود السهو؛ لأن الكلام ينافيها، فهو كالحدث‏.‏ وعن الحسن ومحمد إذا صرف وجهه / عن القبلة لم يبن، ولم يسجد‏.‏ والصواب قول الجمهور، كما نطقت به السنة، فإنه صلى الله عليه وسلم سجد بعد انصرافه، وانفتاله، وإقباله عليهم، وبعد تحدثهم وبعد سؤاله لهم، وإجابتهم إياه‏.‏ وحديث ذي اليدين أبلغ في هذا، فإنه صلى ركعتين، ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها، ثم قال له ذو اليدين‏:‏ أقصرت الصلاة أم نسيت‏؟‏ وأجابه‏.‏ ثم سأل الصحابة فصدقوا ذا اليدين، فعاد إلى مكانه

فصلى الركعتين، ثم سجد بعد السلام سجدتي السهو، وقد خرج السرعان من الناس يقولون‏:‏ قصرت الصلاة، قصرت الصلاة‏.‏

وفي حديث عمران وهو في الصحيحين‏:‏ ‏(‏أنه سلم في ثلاث من العصر، ثم دخل منزله، وقام إليه الخِرْباق فذكر له صنيعه، وأنه خرج يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال‏:‏ ‏(‏أصدق هذا‏؟‏‏)‏، قالوا‏:‏ نعم‏.‏ وهذه القصة إما أن تكون غير الأولي، وإما أن تكون هي إياها لكن اشتبه على أحد الراويين‏:‏ هل سلم من ركعتين، أو من ثلاث، وذكر أحدهما قيامه إلى الخشبة المعروضة في المسجد، والآخر دخوله منزله، ثم من بعد هذا القول والعمل، وخروجه من المسجد والسرعان من الناس، لا ريب أنه أمرهم بما يعملون‏.‏

فإما أن يكونوا عادوا أو بعضهم إلى المسجد، فأتموا معه الصلاة بعد خروجهم من المسجد، وقولهم‏:‏ قصرت الصلاة، قصرت الصلاة‏.‏/ وإما أن يكونوا أتموا لأنفسهم لما علموا السنة‏.‏ وعلى التقديرين، فقد أتموا بعد العمل الكثير، والخروج من المسجد‏.‏

وأما أن يقال‏:‏ إنهم أمروا باستئناف الصلاة، فهذا لم ينقله أحد ولو أمر به لنقل، ولا ذنب لهم فيما فعلوا، وهو في إحدى صلوات الخوف يصلي بطائفة ركعة والأخري بإزاء العدو، ثم يمضون إلى مصاف أصحابهم وهم في الصلاة، فيعملون عملا، ويستدبرون القبلة، ثم يأتي أولئك فيصلي بهم ركعة ثم يمضون إلى مصاف أصحابهم، ثم يصلي هؤلاء لأنفسهم ركعة أخري، وهؤلاء ركعة أخري، وفي ذلك مشي كثير، واستدبار للقبلة، وهم في الصلاة، وقد يتأخر كل طائفة من هؤلاء وهؤلاء في الركعة الأولي‏.‏ والثانية بمشيها إلى مصاف أصحابها، ثم يجيء أصحابها إلى خلف الإمام، ثم بصلاتهم خلف الإمام، ثم برجوعهم إلى مصاف أولئك، ثم بعد هذا كله يصلون الركعة الثانية، وهم قيام فيها مع هذا العمل والانتظار، لكن لا يصلون الركعة إلا بعد هذا كله‏.‏ فعلم أن الموالاة بين ركعات الصلاة لا تجب مع العدو، وموالاة السجدتين مع الصلاة أولي، بخلاف الموالاة بين أبعاض الركعة، وهذا مذهب مالك وأحمد‏.‏

ولهذا إذا نسي ركنًا كالركوع مثلا، فإن ذكر في الأولي، مثل أن يذكر بعد أن يسجد السجدتين، فإنه يأتي بالركوع وما بعده،/ ويلغو ما فعله قبل الركوع؛ لأن الفصل يسير‏.‏ وهذا قول الجماعة، وإن شرع في الثانية‏.‏ إما في قراءتها عندهم، وإما في ركوعها على قول الجماعة‏.‏ وإن شرع في الثانية إما في قراءتها عندهم، وإما في ركوعها على قول مالك، فعند الشافعي يلغو ما فعله بعد الركوع إلى أن يركع في الثانية، فيقوم مقام ركوع الأولي، وإن طال ال

فصل ويلفق الركعة من ركعتين، وقد رجح أحمد هذا على قول الكوفيين، وحكي رواية عنه‏.‏ والمشهور عنه وعن مالك أنهما لا يلفقان، بل تلغو تلك الركعة المنسي ركنها، وتقوم هذه مقامهما، فيكون ترك الموالاة مبطلا للركعة على أصلهما، لا يفصل بين ركوعها وسجودها بفاصل أجنبي عنها، فإن أدني الصلاة ركعة‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك‏)‏‏.‏

والركعة إنما تكون ركعة مع الموالاة، أما إذا ركع ثم فعل أفعالا أجنبية عن الصلاة، ثم سجد، لم تكن هذه ركعة مؤلفة من ركوع وسجود بل يكون ركوع مفرد وسجود مفرد، وهذا ليس بصلاة، والسجود تابع للركوع، فلا تكون صلاة إلا بركوع يتبعه سجود، وسجود يتبعه ركوع، وبسط هذا له موضع آخر‏.‏

لكن هؤلاء لهم عذر الخوف، وأولئك لهم عذر السهو، وعدم العلم‏.‏

/وقد اختلف في السجود والبناء بعد طول الفصل‏.‏ فقيل‏:‏ إذا طال الفصل لم يسجد، ولم يبن، ولم يحد هؤلاء طول الفصل بغير قولهم، وهذا قول كثير من أصحاب الشافعي، وأحمد‏.‏ كالقاضي أبي يعلى، وغيره، وهؤلاء يقولون‏:‏ قد تقصر المدة ـ وإن خرج ـ وقد تطول ـ وإن قعد‏.‏

وقيل‏:‏ يسجد ما دام في المسجد، فإن خرج انقطع‏.‏ وهذا هو الذي ذكره الخِرَقي وغيره، وهو منصوص عن أحمد، وهو قول الحكم وابن شبرمة، وهذا حد بالمكان لا بالزمان، لكنه حد بمكان العبادة‏.‏

وقيل‏:‏ كل منهما مانع من السجود،طول الفصل، والخروج من المسجد‏.‏

وعن أحمد رواية أخري‏:‏ أنه يسجد وإن خرج من المسجد، وتباعد‏.‏وهو قول للشافعي، وهذا هو الأظهر، فإن تحديد ذلك بالمكان أو بزمان، لا أصل له في الشرع، لا سيما إذا كان الزمان غير مضبوط، فطول الفصل وقصره ليس له حد معروف في عادات الناس ليُرْجع إليه، ولم يدل على ذلك دليل شرعي، ولم يفرق الدليل الشرعي في السجود والبناء بين طول الفصل وقصره،ولا بين الخروج من المسجد والمكث فيه بل قد دخل هو صلى الله عليه وسلم إلى منزله / وخرج السرعان من الناس، كما تقدم‏.‏ ولو لم يرد بذلك شرع فقد علم أن ذلك السلام لم يمنع بناء سائر الصلاة عليها‏.‏ فكذلك سجدتا السهو يسجدان متى ما ذكرهما‏.‏

وإن تركهما عمدًا‏.‏ فإما أن يقال‏:‏ يسجدهما ـ أيضًا ـ مع إثمه بالتأخير، كما تفعل جبرانات الحج، وهي في ذمته إلى أن يفعلها، فالموالاة فيها ليست شرطًا، كما يشترط مع القدرة في الركعات‏.‏ فلو سلم من الصلاة عمدًا، بطلت صلاته باتفاق الناس؛ لأن الصلاة في نفسها عبادة واحدة لها تحليل وتحريم، بخلاف السجدتين بعد السلام فإنهما يفعلان بعد تحليل الصلاة، كما يفعل طواف الإفاضة بعد التحلل الأول‏.‏

وإما أن يقال‏:‏ الموالاة شرط فيها مع القدرة، وإنما تسقط بالعذر، كالنسيان والعجز، كالموالاة بين ركعات الصلاة‏.‏ وعلى هذا، فمتى أخرهما لغير عذر بطلت صلاته، إذا لم يشرع

فصلهما عن الصلاة إلا بالسلام فقط، وأمر بهما عقب السلام، فمتى تكلم عمدًا، أو قام، أو غير ذلك مما يقطع التتابع عالماً عامداً بلا عذر، بطلت صلاته، كما تبطل إذا ترك السجدتين قبل السلام‏.‏